فصل: المقدمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بحر الدموع **


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الفقيه الإمام العابد أبو محمد عبدالرحمن بن علي الجوزي، رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنّه وكرمه‏:‏

الحمد لله الذي اخترع الأشياء بلطيف قدرته، وبديع صنعته، فأحسن فيما اخترع، وأبدع الموجودات على غير مثال، فلا شريك له فيما ابتدع، ألف بين اللطيف والكثيف من أعداد آحاد الجوهر وجمع، ليقرّ له بالوحدانية، ويستدلّ على وجود الصانع بما صنع، فالعارفون واقفون تحت مطارف اللطائف بأقبية أبنية التوبة والورع، ليس لقلوبهم مجال في ميدان الكبرياء على أن حماه رحب متسع، فهم إن مالوا إلى نيل مطلوبهم، ردّهم قهر إلهيبة إلى مفاوز الخوف والجزع، وإن همّوا بالذهاب عن الباب، عاقهم قيود الغيب، فعز عليهم الرجوع وامتنع‏.‏

فمنهم كاتم محبته *** قد كف شكوى لسانه وقطع

ومنهم بائح يقول إذا *** لام عذول ذر الملام ودع

أليس قلبي محل محنته *** وكيف يخفى ما فيه وهو قطع

أين المحبون والمحب لهم *** وأين من شتت الهوى وجمع

لهم عيون تبكي فوا عجبًا *** لجفن صبّ إذا هما ودمع

قد حرّموا النوم والمتيم لا *** هجوعًا إذا الخلي هجع

بالباب يبكون والبكاء إذا *** كان خليّا من النفاق نفع

تشفع فيهم دموعهم وإذا *** شفع دمع المتيمين شفع

فبينما هم حيارى بين الخوف والجزع، سكارى من شراب اليأس والطمع، إذ بزغ عليهم قمر السعادة من فلك الإرادة في جوانب قلوبهم ولمع، وأفيض عليهم من ملابس سنادس الاستيناس والبسط خلع، لكل خلعة علمان من الإيمان، ما زيّن بهما بشر، إلا ارتفع، رقم العلم الأيمن‏:‏ ‏{‏سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الأنبياء 101‏]‏، ورقم العلم الأيسر‏:‏ ‏{‏لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء 103‏]‏، فسبحان من يتوب على الجاني، ويقبل العاصي إذا تاب إليه ورجع‏.‏

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أقرّ له بالوحدانية، واعترف له بالربوبية?والألوهية، ولعز جلاله وجماله قد خضع‏.‏

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي سنّ السنن، وبيّن الفرائض، وشرع الأعياد والجُمع، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما ركد الماء ونبع، وظهر في ميدان سطح السماء نجم وطلع، وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏

قال الله العظيم‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات 55‏]‏، وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قال الله تبارك وتعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن تقرّب اليّ شبرًا تقرّبت منه ذراعًا، وإن تقرّب إليّ ذراعًا، تقرّبت منه باعًا، وإن أتاني مشيًا، أتيته هرولة‏"‏ ‏[‏رواه مسلم حديث رقم 2675‏]‏‏.‏

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عجز منكم عن الليل أن يكابده، وجبن عن العدو أن يقاتله، وبخل بالمال أن ينفقه، فليكثر ذكر الله تعالى‏)‏‏.‏ ‏[‏صحيح بشواهد منه من حديث ابن مسعود‏]‏‏.‏

وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مسجد المدينة، فقال‏:‏ ‏(‏إن لله تعالى سرايا من الملائكة تجول، وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فإذا رأيتم رياض الجنة، فارتعوا‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ وما رياض الجنة يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏مجالس الذكر، اغدوا وروحوا في ذكر الله تعالى، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله تعالى، فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد حيث أنزله من نفسه‏)‏‏.‏ ‏[‏صححه الحاكم في المستدرك، وضعفه الذهبي في التلخيص‏]‏‏.‏

وقال عبد الله بن بسر‏:‏ أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إن شرائع الإسلام كثرت عليّ فأمرني بشيء أتشبث به، فقال‏:‏ ‏(‏لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله تعالى‏)‏ ‏[‏رواه الترمذي 3375، وابن ماجه وصححه ابن حبان‏]‏‏.‏

وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من يوم إلا وبقاع الأرض تنادي بعضًا بعضًا‏:‏ يا جارة، هل جاز عليك اليوم ذاكرًا لله تعالى‏)‏ ‏[‏رواه ابن المبارك في الزهد‏]‏‏.‏

إخواني، إذا صعدت الملائكة من مجالس الذكر، قال المولى جل علاه‏:‏ ‏(‏يا ملائكتي، أين كنتم، وهو أعلم، فيقولون‏:‏ يا ربنا، أنت أعلم، كنا عند عبادك يسبّحونك ويقدّسونك ويعظمونك ويمجّدونك ويسألونك ويستغفرونك ويستعيذونك، فيقول‏:‏ يا ملائكتي، وما الذي طلبوا‏؟‏ ومما استعاذوا‏؟‏ فيقولون‏:‏ يا ربنا أنت أعلم، طلبوا الجنة، واستعاذوا من النار، فيقول‏:‏ يا ملائكتي، اشهدوا إني قد أعطيتهم ما طلبوا، وأمنتهم مما خافوا، وأدخلهم الجنة برحمتي‏)‏‏.‏ ‏[‏مسلم 632‏]‏‏.‏

وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يقول‏:‏ ‏(‏عبدي اذكرني ساعة بالغداة وساعة بالعشيّ، أكفك ما بينهما‏)‏‏.‏

وفي بعض الكتب المنزلة أن الله تبارك وتعالى يقول‏:‏ يا ابن آدم ما أجبرك‏!‏ تسألني، فأمنعك لعلمي بما يصلحك، ثم تلح عليّ في المسألة، فأجود برحمتي وكرمي عليك، فأعطيك ما سألتني، فتستعين بما أعطيك على معصيتي، فأهمّ بهتك سترك، فكم من جميل أصنعه معك، ومن من قبيح تعمله معي‏.‏ يوشك أن أغضب عليك غضبة لا أرضى بعدها أبدًا‏.‏

وفي بعض الكتب المنزلة أيضا‏:‏ يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ عبدي، إلى كم تستمر على عصياني، وأنا غذيتك برزقي واحساني، أما خلقتك بيدي‏؟‏ أما نفخت فيك من روحي‏؟‏ أما علمت فعلي بمن أطاعني، وأخذي لمن عصاني‏؟‏ أما تستحي تذكرني في الشدائد وفي الرخاء تنساني‏؟‏ عين بصيرتك أعماها الهوى‏.‏ قل لي بماذا تراني‏؟‏ هذا حال من لم تؤثر فيه الموعظة، فإلى كم هذا التواني‏؟‏ إن تبت من ذنبك، آتيتك أماني‏.‏ اترك دارًا صفوها كدر، وآمالها أماني‏.‏ بعت وصلي بالدون، وليس لي في الوجود ثاني‏.‏ ما جوابك إذا شهدت عليك الجوارح بما تسمع وترى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا‏}‏ ‏[‏آل عمران 30‏]‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

تعصي الإله وأنت تدعي حبه *** هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع

قال مالك بن دينار‏:‏ دخلت على جار لي وهو في الغمرات يعاني عظيم السكرات، يغمى عليه مرة، ويفيق أخرى، وفي قلبه لهيب الزفرات، وكان منهمكًا في دنياه، متخلفًا عن طاعة مولاه، فقلت له‏:‏ يا أخي، تب إلى الله، وارجع عن غيّك، عسى المولى أن يشفيك من ألمك، ويعافيك من مرضك وسقمك، ويتجاوز بكرمه عن ذنبك‏.‏ فقال‏:‏ هيهات هيهات‏!‏ قد دنا ما هو آت، وأنا ميّت لا محالة، فيا أسفي على عمر أفنيته في البطالة‏.‏ أردت أن أتوب مما جنيت، فسمعت هاتفًا يهتف من زاوية البيت‏:‏ عاهدناك مرارًا فوجدناك غدارًا‏.‏

نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونستغفره من الذنوب المتقادمة‏.‏

?يا أخي أقبل على قبلة التوجه إلى مولاك، وأعرض عن مواصلة غيّك وهواك وواصل بقية العمر بوظائف الطاعات، واصبر على ترك عاجل الشهوات، فالفرار أيها المكلف كل الفرار من مواصلة الجرائم والأوزار، فالصبر على الطاعة في الدنيا أيسر من الصبر على النار‏.‏

وأنشدوا‏:‏

أمولاي إني عبد ضعيف *** أتيتك أرغب بما لديك

أتيتك أشكو مصاب الذنوب *** وهل يشتكى الضر إلا إليك

فمنّ بعفوك يا سيّدي *** فليس اعتمادي إلا عليك

قال بعض السادة الأخيار لولده لما حضرته الوفاة‏:‏ يا بنيّ، اسمع وصيتي، واعمل ما أوصيك به‏.‏ قال نعم يا أبت‏.‏ قال يا بنيّ، اجعل في عنقي حبلًا، وجرّني إلى محرابي، ومرّغ خدي على التراب، وقل‏:‏ هذا جزاء من عصى مولاه، وآثر شهوته وهواه، ونام عن خدمة مولاه‏.‏ قال‏:‏ فلما فعل ذلك به، رفع طرفه إلى السماء وقال‏:‏ إلهي وسيدي ومولاي، قد آن الرحيل إليك، وأزف القدوم عليك، ولا عذر لي بين يديك، غير أنك الغفور وأنا العاصي، وأنت الرحيم وأنا الجاني، وأنت السيد وأنا العبد، ارحم خضوعي وذلتي بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك‏.‏

قال‏:‏ فخرجت روحه في الحال، فإذا بصوت ينادي من زاوية البيت سمعه كل من حضر وهو يقول‏:‏ تذلل العبد لمولاه، واعتذر إليه مما جناه، فقرّبه وأدناه وجعل الجنة مأواه‏.‏

إلهي إن كنت الغريق وعاصيًا *** فعفوك يا ذا الجود والسعة الرحب

بشدّة فقري باضطراري بحاجتي *** إليك إلهي حين يشتد بي الكرب

بما بي من ضعف وعجز وفاقة *** بما ضمّنت من وسع رحمتك الكتب

صلاة وتسليم وروح وروحة *** على الصادق المصدوق ما انفلق الحب

أبي القاسم الماحي الأباطيل كلها *** وأصحابه الأخيار ساداتنا النجب

إخواني، هذا القبول ينادي صبيان الهوى، الشاب التائب حبيب الله، ويصيح بكهول الخطا عسى الله أن يتوب عليهم، ويهتف بشيوخ الندم‏:‏ إنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي‏.‏

وفي الخبر‏:‏ إذا تاب العبد إلى الله عز وجل، وحسنت توبته، وقام بالليل يناجي ربه، أوقدت الملائكة سراجًا من نور، وعلقته بين السماء والأرض، فتقول الملائكة‏:‏ ما هذا‏؟‏ فيقال لهم‏:‏ إن فلان بن فلان قد اصطلح الليلة مع مولاه‏.‏

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا قام العبد بالليل، تباشرت أعضاؤه، ونادى بعضها بعضًا‏:‏ قد قام صاحبنا لخدمة الله تعالى‏)‏‏.‏

وعن أحمد الحواري، قال‏:‏ دخلت على أبي سليمان الداراني، فوجدته يبكي، فقلت له‏:‏ وما يبكيك يا سيدي‏؟‏ قال لي‏:‏ يا أحمد، إن أهل المحبة إذا جنهم الليل، افترشوا أقدامهم، فدموعهم تجري على خدودهم بين راكع وساجد، فإذا أشرف المولى جل جلاله عليهم، قال‏:‏ يا جبريل، بعيني من تلذذ بكلامي، واستراح إلى مناجاتي، واني لمطلع عليهم، أسمع كلامهم، وأرى حنينهم، وبكاءهم، فنادهم يا جبريل، وقل لهم‏:‏ ما هذا الجزع الذي أرى بكم‏؟‏ هل أخبركم مخبر أن حبيبًا يعذب أحبابه بالنار‏؟‏ أم هل يحمل بي أن أبيّت قومًا، وعند البيات آمرهم إلى النار‏؟‏ لا يليق هذا بعبد ذميم، فكيف بالملك الكريم‏؟‏‏!‏ فبعزتي لأجعلن هديّتي اليهم أن أكشف لهم عن وجهي الكريم، فأنظر اليهم وينظرون إليّ‏.‏

وعن أبي سليمان الداراني رضي الله عنه، قال‏:‏ قرأت في بعض الكتب المنزلة‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وكابد المكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا إلى جواري، وبحبحوا في رياض خلدي هنالك فليبشر المصغون بأعمالهم بالنظر العجيب إلى الحبيب القريب‏.‏ أترون إني أضيع لهم ما عملوا‏؟‏ كيف وأنا أجود على المولين، وأقبل التوبة على الخاطئين وأنا بهم أرحم الراحمين‏؟‏‏!‏‏.‏

الفصل الأول

يا أسير دنياه، يا عبد هواه، يا موطن الخطايا، ويا مستودع الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفًا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رُمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك‏:‏

إليك عنا فما تحظى بنجوانا *** يا غادرًا قد لها عنا وقد خانا

أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا *** وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا

بأي وجه نراك اليوم تقصدنا *** وطال ما كنت في الأيام تنسانا

يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع *** إلا لمجتهد بالجدّ قد دانا

يا من باع الباقي بالفاني، أما ظهر لك الخسران، ما أطيب أيام الوصال، وما أمرّ أيام الهجران، ما طاب عيش القوم حتى هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدًا وقياما‏.‏

عن عبد العزيز بن سلمان العابد، قال‏:‏ حدثني مطهر، وقد كان بكى شوقًا إلى الله تعالى ستين عامًا، قال‏:‏ رأيت كأني على ضفة نهر يجري بالمسك الأذفر، وحافاته شجر اللؤلؤ، وطينة العنبر، وفيه قضبان الذهب، وإذا بجوار مترنمات يقلن بصوت واحد‏:‏ سبحانه وتعالى سبحان، سبحان المسبّح بكل لسان سبحان الموجود في كل مكان نحن الخالدات فلا نموت أبدًا‏.‏ نحن الراضيات، فلا نغضب أبدًا‏.‏ نحن الناعمات، فلا نتغيّر أبدًا‏.‏ قال‏:‏ فقلت لهن‏:‏ من أنتن‏؟‏‏!‏ فقلن‏:‏ خلق من خلق الله تعالى‏.‏ قلت‏:‏ ما تصنعن هاهنا‏؟‏ فقلن بصوت واحد حسن مليح‏:‏

ذرانا إله الناس رب محمد *** لقوم على الأطراف بالليل قوم

يناجون رب العالمين إلههم *** ونسري هموم القوم والناس نوم

فقلت‏:‏ بخ بخ‏!‏ من هؤلاء الذين أقر الله أعينهم‏؟‏ قلن‏:‏ أما تعرفهم‏؟‏‏!‏ قلت‏:‏ لا والله ما أعرفهم‏.‏ فقلن‏:‏ هم المجتهدون بالليل، أصحاب السهر بالقرآن‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا أذنب العبد، وتاب إلى الله، وحسنت توبته، تقبل الله منه كل حسنة عملها، وغفر له كل ذنب اقترفه، ويرفع له بكل ذنب درجة في الجنة، ويعطيه الله بكل حسنة قصرًا في الجنة، ويزوجه الله حورًا من الحور العين‏)‏‏.‏

وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أوحى الله إلى داود عليه السلام‏:‏ يا داود، بشر المذنبين، وأنذر الصديقين، فتعجب داود عليه السلام، فقال‏:‏ يا رب، فكيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين‏؟‏‏!‏ قال الله تعالى‏:‏ يا داود، بشر المذنبين ألا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم، فإني لا أضع حسابي على أحد إلا هلك‏.‏ يا داود، إن كنت تزعم أنك تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك، فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب واحد‏.‏ يا داود، من أحبني، يتهجد بين يدي إذا نام البطالون، ويذكرني في خلوته إذا لها عن ذكري الغافلون، ويشكر نعمتي عليه إذا غفل عني الساهون‏)‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

طوبى لمن سهرت بالليل عيناه *** وبات في قلق من حب مولاه

وقام يرعى نجوم الليل منفردًا *** شوقًا إليه وعين الله ترعاه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البرّ لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديّان لا يفنى‏.‏ كن كيف شئت كما تدين تدان‏)‏‏.‏

ما هذا، أتدري ما صنعت‏؟‏ بعت القرب بالبعد، والعقل بالهوى والدين بالدنيا‏.‏

وأنشدوا‏:‏

قم فأرث نفسك وابكها *** ما دمت وابك على مهل

فإذا اتقى اللهَ الفتى *** فيما يريد فقد كمل

وعن جابر رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما نزع الله عبدًا من ذنب إلا هو ويريد أن يغفر له، وما استمال الله عبدًا لعمل صالح، إلا وهو يريد أن يتقبله منه‏)‏‏.‏

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏التائبون إذا خرجوا من قبورهم، ارتفع من بين أيديهم ريح المسك، ويأتون على مائدة من الجنة يأكلون منها وهم في ظل العرش، وسائر الناس في سدّة الحساب‏)‏‏.‏

ويروى إن رجلًا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، بما أتقي النار‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بدموع عينيك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وكيف أتقيها بدموع عيني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أهمل دموعهما من خشية الله، فإنه لا يعذب بالنار عينًا بكت من خشيته‏)‏‏.‏ ‏[‏قال المصنف في العلل المتناهية هذا حديث لا يصح عن رسول الله‏]‏‏.‏

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قطرة تخرج من عين المؤمن من خشية الله، خير له من الدنيا وما فيها، وخير له من عبادة سنة، وتفكّر ساعة في عظمة الله وقدرته خير من صيام ستين يومًا وقيام ستين ليلة‏.‏ إلا وإن لله ملكًا ينادي في كل يوم وليلة‏:‏ أبناء الأربعين، زرع دنا حصاده، أبناء الخمسين، هلموا إلى الحساب، أبناء الستين، ماذا قدّمتم وماذا أخرتم، أبناء السبعين، ماذا تنتظرون‏.‏ ألا ليت الخلق لم يخلقوا، فإذا خلقوا ليتهم علموا لما خلقوا له، فعملوا لذلك‏.‏ ألا قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم‏)‏‏.‏

نزه مشيبك عن شيء يدنّسه *** إن البياض قليل الحمل للدنس

يا عبد السوء، كم تعصي ونستر، كم تكسر باب نهي ونجبر، كم نستقطر من عينيك دموع الخشية ولا يقطر، كم نطلب وصلك بالطاعة، وأنت تفرّ وتهجر، كم لي عليك من النعم، وأنت بعد لا تشكر‏.‏ خدعتك الدنيا وأعمال الهوى وأنت لا تسمع ولا تبصر‏.‏ سخّرت لك الأكوان وانت تطغى وتكفر، وتطلب الإقامة في الدنيا وهي نظرة لمن يعبر‏.‏

منعوك من شرب المودة والصفا *** لما رأوك على الخيانة والجفا

إن أنت أرسلت العنان إليهم *** جادوا عليك تكرّمًا وتعطّفا

حاشاهم أن يظلموك وإنما *** جعلوا الوفا منهم لأرباب الوفا

وروي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏دخلت على بعض المجوس وهو يجود بنفسه عند الموت، وكان حسن الجوار، وكان حسن السيرة، حسن الأخلاق، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت، ويميته على الإسلام، فقلت له‏:‏ ما تجد، وكيف حالك‏؟‏ فقال‏:‏ لي قلب عليل ولا صحة لي، وبدن سقيم، ولا قوة لي، وقبر موحش ولا أنيس لي، وسفر بعيد ولا زاد لي، وصراط دقيق ولا جواز لي، ونار حامية ولا بدن لي‏,‏ وجنّة عالية ولا نصيب لي، ورب عادل ولا حجة لي‏.‏

قل الحسن‏:‏ فرجوت الله أن يوفقه، فأقبلت عليه، وقلت له‏:‏ لم لا تسلم حتى تسلم‏؟‏ قال‏:‏ إن المفتاح بيد الفتاح، والقفل هنا، وأشار إلى صدره وغشي عليه‏.‏

قال الحسن‏:‏ فقلت‏:‏ إلهي وسيدي ومولاي، إن كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها إليه قبل فراق روحه من الدنيا، وانقطاع الأمل‏.‏

فأفاق من غشيته، وفتح عينيه، ثم أقبل وقال‏:‏ يا شيخ، إن الفتاح أرسل المفتاح‏.‏ أمدد يمناك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، ثم خرجت روحه وصار إلى رحمة الله‏.‏

وأنشدوا‏:‏

يا ثقتي يا أملي *** أنت الرجا أنت الولي

اختم بخير عملي *** وحقق التوبة لي

قبل حلول أجلي *** وكن لي يا ربّ ولي

إخواني، ما هذه السّنة وأنتم منتبهون‏؟‏ وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون‏؟‏ وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون‏؟‏ وما هذه السكرة وأنتم صاحون‏؟‏ وما هذا السكون وأنتم مطالبون‏؟‏ وما هذه الاقامة وأنتم راحلون‏؟‏ أما آن لهؤلاء الرّقدة أن يستيقظوا‏؟‏ أما حان لأبناء الغفلة أن يتعظوا‏؟‏‏.‏

واعلم أن الناس كلهم في هذه الدنيا على سفر، فاعمل لنفسك ما يخلصها يوم البعث من سقر‏.‏

آن الرحيل فكن على حذر *** ما قد ترى يغني عن الحذر

لا تغترر باليوم أو بغد *** فلربّ مغرور على خطر

قال الجنيد‏:‏ كان سري السقطي رضي الله عنه متصل الشغل، وكان إذا فاته شيء من ورده لا يقدر أن يعيده‏.‏

وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن له وقت ينام فيه، فكان ينعس وهو جالس، فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين، ألا تنام‏؟‏ فقال‏:‏ كيف أنام‏؟‏‏!‏ إن نمت بالنهار، ضيّعت حقوق الناس، وإن نمت بالليل ضيّعت حظي من الله‏.‏

وسمع الجنيد رضي الله عنه ما يقول‏:‏ ما رأيت أعبد لله تعالى من سريّ السّقطي، أتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رؤي قط مضطجعًا إلا في علته التي مات فيها‏.‏

قال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ سمعت السريّ السقطي رضي الله عنه يقول‏:‏ لولا الجمعة والجماعة ما خرجت من بيتي، وللزمت بيتي حتى أموت‏.‏

قال أبو بكر الصيدلاني‏:‏ سمعت سليمان بن عمار يقول‏:‏ رأيت أبي في المنام فقلت له‏:‏ ما فعل بك ربك‏؟‏ فقال‏:‏ إن الرب قرّبني وأدناني، وقال لي‏:‏ يا شيخ السوء أتدري لم غفرت لك‏؟‏ فقلت‏:‏ لا يا إلهي‏.‏ قال‏:‏ إنك جلست للناس يومًا مجلسًا فأبكيتهم، فبكى فيهم عبد من عبيدي لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له ووهبت أهل المجلس كلهم له، ووهبتك فيمن وهبت له‏.‏

عن علي بن محمد بن إبراهيم الصفار، قال‏:‏ حضرت أسود بن سالم ليلة وهو يقول هذين البيتين ويكررهما ويبكي‏:‏

أمامي موقف قدّام ربي *** يسألني وينكشف الغطا

وحسبي إن أمرّ على صراط *** كحد السيف أسفله لظى

قال‏:‏ ثم صرخ صرخة، ولم يزل مغمى عليه حتى أصبح رضي الله عنه‏.‏

وكذلك يروى عن الضحّاك بن مزاحم أنه قال‏:‏ خرجت ذات ليلة إلى مسجد الكوفة، فلما قربت من المسجد، فإذا في بعض رحابه شاب قد خرّ ساجدًا وهو يخور بالبكاء، فلم أشك أنه ولي من أولياء الله تعالى‏؟‏، فقربت منه لأسمع ما يقول فسمعته يقول أبياتًا‏:‏

عليك يا ذا الجلال معتمدي *** طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن بات خائفًا وجلًا *** يشكو إلى ذي الجلال بلواه

وما به علة ولا سقم *** أكثر من حبّه لمولاه

اذا خلا في ظلام الليل مبتهلًا *** أجابه الله ثم لبّاه

ومن ينل ذا من الإله فقد *** فاز بقرب تقرّ عيناه

فبقي يكرر هذه الأبيات ويبكي، وأنا أبكي رحمة لبكاءه، فبينما أنا كذلك، لاح لي ضوء كالبرق الخاطف، فأسرعت بيدي إلى عيني، فسمعت، فإذا بمناد ينادي من فوق رأسه بصوت عذب لذيذ لا يشبه كلام بني آدم، هو يقول‏:‏

لبيّك عبدي وأنت في منفي *** وكل ما قلت قد قبلناه

صوتك تشتاقه ملائكتي *** وحسبك الصوت قد سمعناه

إن هبت الريح من جوانبه *** خرّ صريعًا لما تغشاه

ذاك عبدي يجول في حجبي *** وذنبك اليوم قد غفرناه

فقلت‏:‏ مناجاة الحبيب مع حبيبه وربّ الكعبة، فخريّت مغشيًا على وجهي لما أدركني من إلهيبة، ثم أفقت من عشيتي وأنا أسمع ضجيج الملائكة في الهواء، وخفقان أجنحتهم بين السماء والأرض، خيّل اليّ أن السماء قد قربت من الأرض، ورأيت النور قد غلب على ضوء القمر، وكانت ليلة مقمرة ساطعة النور، فدنوت منه وسلمت عليه، فردّ عليّ السلام، فقلت له‏:‏ بارك الله فيك، من أنت يرحمك الله‏؟‏ فقال لي‏:‏ أنا راشد بن سليمان، فعرفته لما كنت أسمع عنه‏.‏ فقلت له‏:‏ رحمك الله، لو أذنت لي في صحبتك لآنس بك، فقال لي‏:‏ هيهات هيهات، وهل يأنس بالمخلوقين من تلذذ بمناجاة رب العالمين، فانصرف عني وتركني رضي الله عنه‏.‏

الفصل الثاني

إخواني، إلى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل‏؟‏ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتاب مدّخر ليوم الحساب‏.‏ وأنشدوا‏:‏

ولو أننا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كل حيّ

ولكنّا إذا متنا بعثنا *** ونُسأل بعدها عن كل شيء

يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لا يغرّنّكم قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ‏}‏ ‏[‏الأنعام 160‏]‏، فإن السيئة وإن كانت واحدة، فانها تتبعها عشر خصال مذمومة‏:‏

أولها‏:‏ إذا أذنب العبد ذنبًا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه‏.‏

والثانية‏:‏ أنه فرّح إبليس لعنه الله‏.‏

والرابعة‏:‏ أنه تقرّب من النار‏.‏

والخامسة‏:‏ أنه قد آذى الحفظة‏.‏

والثامنة‏:‏ أنه قد أحزن النبي صلى الله عليه وسلم في قبره‏.‏

والتاسعة‏:‏ أنه أشهد على نفسه السماوات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان‏.‏

والعاشرة‏:‏ أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين‏.‏

ويروى عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه قال‏:‏ خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدًا من الناس، فبينما أنا سائر، إذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، إذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي‏:‏ أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

فلما وصلت إلى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فإذا أنا بصوت حزين وهو يقول‏:‏ إلهي وسيدي ومولاي، إن كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين‏.‏

فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فإذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي‏:‏ يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه‏.‏

فبينما أنا كذلك، إذ أنا بقصعة من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فإذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي‏:‏ يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول إلى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي إليك حاجة، فإن قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ إذا أنا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فإذا قضيت الحج، فإنك تصل إلى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فإنك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابُا، صغير السن، ليس يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فإذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام‏.‏

قال ذا النون‏:‏ فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته وواريته التراب، وسرت إلى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت إلى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت إلى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فإذا أنا بالصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسًا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول‏:‏

الناس كلهم للعيد قد فرحوا *** وقد فرحت أنا بالواحد الصمد

الناس كلهم للعيد قد صبغوا *** وقد صبغت ثياب الذل والكمد

الناس كلهم للعيد قد غسلوا *** وقد غسلت أنا بالدمع للكبد

قال ذو النون‏:‏ فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال‏:‏ مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له‏:‏ من أخبرك بأني رسول أتيتك من أبيك‏؟‏ قال‏:‏ الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء‏.‏ يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء‏؟‏ والله إن أبي رفع إلى سدرة المنتهى، ولكن سر معي إلى جدتي‏.‏

فأخذ بيدي وسار معي إلى منزله، فلما وصل إلى الباب نقر نقرًا خفيفًا، فإذا بالعجوز قد خرجت إلينا، فلما رأتني، قالت مرحبًا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني‏.‏ قلت لها‏:‏ من أخبرك بأني رأيته‏؟‏ قالت‏:‏ الذي أخبرني بأنك كفنته وإن الكفن مردود عليك‏.‏ يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، إن خرقة ابني يباهي الله بها الملائكة في الملأ الأعلى‏.‏

ثم قالت‏:‏ يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي‏؟‏ قلت لها‏:‏ تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حضي بما أمل من العزيز الغفار‏.‏

فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي إلى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا أدري‏:‏ أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفًا يقول‏:‏ يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم‏.‏ فقلت‏:‏ أين صاروا، فقال لي‏:‏ إن الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق إلى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏.‏

قال ذا النون‏:‏ فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولًا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم‏.‏

الفصل الثالث

أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ‏؟‏ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق‏.‏

يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك‏.‏ لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيًا موجودًا، كأنك لا تعود نسيًا مفقودًا‏.‏

فاز، والله، المخفون من الأوزار، وسلم المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار‏.‏

وأنشدوا‏:‏

عيل صبري وحق لي أن أنوحا *** لم تدع لي الذنوب قلبًا صحيحا

أخلقت مهجتي أكف المعاصي *** ونعاني المشيب نعيًا صريحا

كلما قلت قد بري جرح قلبي *** عاد قلبي من الذنوب جريحا

إنّما الفوز والنعيم لعبد *** *** جاء في الحشر آمنًا مستريحا

إخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها أن تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون‏.‏

يا من غدًا في الغيّ والتيه *** وغرّه طول تماديه

أملى لك الله فبارزته *** ولم تخف غبّ معاصيه

قال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ مرض السّريّ السّقطي رضي الله عنه فدخلت عليه أعوده، فقلت له‏:‏ كيف تجدك‏؟‏ فقال‏:‏

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي *** والذي قد أصابني من طبيبي

فأخذت المروحة لأروّح عليه، فقال‏:‏ كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق من داخل، ثم أنشأ يقول‏:‏

القلب محترق والدمع مستبق *** والكرب مجتمع والصبر مفترق

كيف القرار على من لا قرار له *** مما جناه الهوى والشوق والقلق

يا ربّ إن كان شيء فيه لي فرج *** فامنن عليّ به ما دام بي رمق

ويروى عن علي بن الموفق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ خرجت يومًا لأؤذن، فأصبت قرطاسًا، فأخذته ووضعته في كمي، وأقمت الصلاة وصليت، فلما صليت قرأته، فإذا مكتوب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ يا علي بن الموفق، أتخاف الفقر وأنا ربك‏؟‏‏.‏

ويروى عن المزني، قال‏:‏ دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ قال‏:‏ أصبحت في الدنيا راحلًا، وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنيّة شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، فلا أدري‏:‏ أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها‏؟‏ ثم بكى وأنشأ يقول‏:‏

ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو من الذنب ولم تزل *** تجود وتعفو منّة وتكرّما

فلولاك لم ينجو من إبليس عابد *** وكيف وقد أغوى صفيّك آدما

إخواني‏:‏ بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظلم الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوس خائفة، وقلوب واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يرى ولا يرى‏:‏

وأنشدوا‏:‏

ألا قف ببابي عند قرع النوائب *** وثق بي تجدني خير خلّ وصاحب

ولا تلتفت غيري فتصبح نادمًا *** ومن يلتفت غيري يعش خائب

كان أبو محفوظ معروف الكرخي قد خصّه الله بالاجتباء في حال الصبا، يذكر أن أخاه عيسى قال‏:‏ كنت أنا وأخي معروف في المكتب، وكنا نصارى، وكان المعلم يعلم الصبيان‏:‏ ‏"‏ أب‏"‏ و‏"‏ ابن‏"‏ فيصيح أخي معروف‏:‏ ‏"‏أحد أحد‏"‏ فيضربه المعلم على ذلك ضربًا شديدًا، حتى ضربه يومًا ضربًا عظيمًا، فهرب على وجهه‏.‏

وكانت أمه تبكي وتقول‏:‏ لئن ردّ الله عليّ معروفًا، لأتبعنّه على أي دين كان، فقدم عليها معروف بعد سنين كثيرة، فقالت له‏:‏ يا بنيّ، على أي دين أنت‏؟‏ قال‏:‏ على دين الإسلام، فقالت‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فأسلمت أمي وأسلمنا كلنا‏.‏

وقال أحمد بن الفتح‏:‏ رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان بين يديه مائدة وهو يأكل منها، فقلت‏:‏ يا أبا نصر‏,‏ ما فعل الله بك‏؟‏ قال‏:‏ رحمني وغفر لي، وأباح لي الجنة بأسرها، وقال لي‏:‏ كل من جميع ثمارها، واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها، كما كنت تحرم نفسك عن الشهوات في دار الدنيا‏.‏

فقلت له‏:‏ فأين أخوك أحمد بن حنبل‏؟‏ فقال‏:‏ هو قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقولون‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق‏.‏

فقلت له‏:‏ وما فعل الله بمعروف الكرخي‏؟‏ فحرّك رأسه، وقال هيهات هيهات‏!‏ حالت بيننا وبينه الحجب‏.‏ إن معروفًا لم يعبد الله شوقًا إلى جنّته، ولا خوفًا من ناره، وإنما عبده شوقًا إليه، فرفعه إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجاب بينه وبينه‏.‏

ذلك الترياق المقدس المجرّب، فمن كانت له إلى الله حاجة، فليأت قبره، وليدع، فإنه يستجاب له إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏[‏التبرك بقبور الأولياء هو من الشرك، والتوسل المشروع التوسل بأسماء الله وصفاته ودعاء الرجل الصالح‏]‏‏.‏

الفصل الرابع

يا إخوان الغفلة تيقظوا، يا مقيمين على الذنوب انتهوا واتعظوا، فبالله أخبروني‏:‏ من أسوأ حالا ممن استعبده هواه، أم من أخسر صفقة ممن باع آخرته بدنياه، فما للغفلة قد شملت قلوبكم‏؟‏ وما للجهالة قد ترت عنكم عيوبكم‏؟‏ أما ترون صوارم الموت بينكم لامعة، وقوارعه بكم واقعة، وطلائعه عليكم طالعة، وفجائعه لعذركم قاطعة، وسهامه فيكم نافذة، وأحكامة بنواصيكم آخذة‏؟‏ فحتى م‏؟‏ والى م‏؟‏ وعلام التخلف والمقام‏؟‏ أتطمعون في بقاء الأبد‏؟‏ كلا والواحد والصمد‏.‏ إن الموت لبالرّصد، ولا يبقي على والد ولا ولد، فجدّوا، رحمكم الله، في خدمة مولاكم، وأقلعوا عن الذنوب، فلعله يتولاكم‏.‏

يروى عن محمد بن قدامة، قال‏:‏ لقي بشر بن الحارث رجلًا سكران، فجعل السكران يقبله، ويقول‏:‏ يا سيدي أبا نصر، ولا يدفعه بشر عن نفسه، فلما تولى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال‏:‏ رجل أحبّ رجلًا على خير توهّمه فيه، ولعل المحبّ قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله‏.‏

فوقف على أصحاب الفاكهة، فجعل ينظر، فقلت‏:‏ يا أبا نصر، لعلك تشتهي من هذا شيئًا‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن نظرت في هذا؛ إذا كان يطعم هذا لمن يعصيه، فكيف من يطيعه ماذا يطعمه في الجنة ويسقيه‏؟‏‏!‏‏.‏‏.‏

إخواني‏:‏ ما للغافل إلى كم ينام‏؟‏ أما توقظ الليالي والأيام‏؟‏ أين سكان القصور والخيام‏؟‏ دار والله عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام‏.‏ ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام‏.‏

وأنشدوا‏:‏

دعوني على نفسي أنوح وأندب *** بدمع غزير واكف يتصبب

دعوني على نفسي أنوح لأنني *** أخاف على نفسي الضعيفة تعطب

فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصا *** إلى أين ألجأ أم إلى أين أذهب

فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي *** إذا كنت في نار الجحيم أعذب

وقد ظهرت تلك القبائح كلها *** وقد قرّب الميزان والنار تلهب

ولكنني أرجو الاله لعله *** يحسن رجائي فيه لي يتوهب

ويدخلني دار الجنان بفضله *** فلا عمل أرجو به أتقرّب

سوى حب طه الهاشمي محمد *** وأصحابه والآل من قد ترهبوا

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يؤتى برجل يوم القيامة قد جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال، فيقال له‏:‏ قف للحساب، فيحاسب على كل حبة وذرة ودانق‏:‏ من أين أخذه وفيما أنفقه‏)‏ ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا ابن آدم، ما تصنع بالدنيا‏؟‏ حلالها حساب، وحرامها عقاب‏)‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

فلا تأمن لذي الدنيا صلاحًا *** فإن صلاحها عين الفساد

ولا تفرح لمال تقتنيه *** فإنك فيه معكوس المراد

قال بعض العارفين رضي الله عنه‏:‏ إن أبا يزيد البسطامي بكى عند موته، ثم ضحك، ثم فارق الدنيا، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له‏:‏ لم بكيت قبل الموت ثم ضحكت‏؟‏ فقال‏:‏ لما كنت في النزع، أتاني إبليس لعنة الله عليه، وقال لي‏:‏ يا أبا يزيد، أفلتّ من شبكتي، فبكيت حينئذ إلى الله تعالى، فنزل عليّ ملك من السماء، وقال لي‏:‏ يا أبا يزيد، يقول لك رب العزة‏:‏ لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة، فضحكت عند ذلك، وفارقت الدنيا‏.‏

وأنشدوا‏:‏

وقفت وأجفاني تفيض دموعها *** وقلبي من خوف القطيعة هائم

وكل مسيء أوبقته ذنوبه *** ذليل حزين مطرق الطرف نادم

فيا رب ذنبي تعاظم قدره *** وأنت بما أشكو يا رب عالم

وأنت رؤوف بالعباد مهيمن *** حليم كريم واسع العفو راحم

يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف‏؟‏ وكم من سبب أضعت فيه التكليف، وكم أذن سمّاعة لا يزجرها التخويف‏؟‏‏.‏

ولما حضرت جابر بن زيد الوفاة قيل‏:‏ ما تشتهي‏؟‏ قال‏:‏ نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن، فجاء ودخل عليه، وقال له‏:‏ يا جابر كيف تجدك‏؟‏ قال‏:‏ أجد أمر الله غير مردود‏.‏ يا أبا سعيد، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحسن‏:‏ يا جابر قال رسول الله صلى لله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمن من الله على سبيل خير، إن تاب قبله، وإن استقال أقاله، وإن اعتذر إليه قبل اعتذاره، وعلامة قبول ذلك خروج روحه‏,‏ يجد بردًا على قلبه‏)‏‏.‏ فقال جابر‏:‏ الله أكبر‏!‏ إني لأجد بردًا على قلبي‏.‏ ثم قال‏:‏ اللهم إن نفسي تطمع في ثوابك، فحقق ظني، وآمن خوفي وجزعي، ثم تشهّد ومات رضي الله عنه‏.‏

وكان سبب توبة داود الطائي أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر تبكي وتقول‏:‏

تزيد بلى في كل يوم وليلة *** وتسأل لما تبلى وأنت حبيب

مقيم إلى أن يبعث الله خلقه *** لقاؤك لا يرجى وأنت قريب